اخبار لم تسمع عنها وفيديوهات لم تشاهدها واصدقاء بانتضارك على الشات

شاهد بيتك او مدينتك عبر القمر الصناعي

وائل عبدالفتاح يكتب عن مستقبل مصر

لم يعد أيّ شيء غريباً في مصر. هذه لحظة ألعاب سرية تعيد ترتيب المواقع في عوالم السياسة والاقتصاد والمجتمع. ألعاب خطرة وأخرى أقل خطورة، لكنها ستصنع شكل المستقبل الذي يبدو أن المصريين يجلسون أمام الشاشات يتابعون استعراضاته الغامضة
هجوم عشوائي على مستعمرات الأثرياء
«اذهب، هناك بيوت الأثرياء، اسرق بيتاً أو بيتين واحتفل بالعيد». هذه نصيحة أصدقاء محمود السيد عبد الحافظ، الذي لا تزال صحف القاهرة تكتب اسمه بطرق مختلفة. شاب يقترب من العشرين ظهر فجأة ليصبح حديث الصباح في الصحف والمساء في برامج التلفزيون. الظهور المفاجئ أربك جميع المهتمين بمتابعة تفاصيل جريمة القتل، التي اشتهرت لأن ضحيتها ابنة المطربة المغربية ليلى غفران، والتي قتلت في بيت صديقتها في أحد أحياء مدينة الشيخ زايد، وهي تجمعات سكنية جديدة وهادئة بعيدة عن صخب العاصمة، ومنعزلة تقريباً.
سكان «المنتجعات» على أطراف القاهرة هم: الأثرياء من وجهة نظر القاتل، وهو ابن منطقة قديمة (روض الفرج) ويعمل نجاراً وليس لديه خطة للمستقبل.
نصيحة الأصدقاء: ابحث عن مغانمك وخريطتك للمستقبل في ملاعب الأثرياء الجدد «هؤلاء يحتفظون بمجوهرات وأشياء ثمينة ولن يفرق معهم انتقاص بعضها لنستمتع نحن». هكذا قال لنفسه (تقريباً) قبل أن يبدأ رحلته العشوائية إلى الحيّ الراقي. تصورها رحلة إلى بعض الراحة والرفاهية. فخرج منها بقتيلتين و٢٠٠ جنيه (أقل من ٤٠ دولاراً) وجهاز هاتف محمول كان السبب في الإرشاد عنه.
قاتل عشوائي. مجرم لأول وآخر مرة. طليعة لصوص وقتلة هواة غير محترفين. يخزنون في لاوعيهم حكايات عن لصوص سرقوا البلد، صنعوا ثروات بالملايين، وهاجروا إلى مستعمرات الرفاهية على أطراف العاصمة. تتلاعب الصور والخيالات في اللاوعي وتدفع صاحبها إلى جرائم «شراكة» في المال المنهوب. السرقة ليست جريمة إلا لمن لا يستطيع الهرب و«الفرق بيننا وبين الأثرياء أنهم يسرقون وهم مرتاحو البال، بينما نحن نضطر إلى ركوب الصعب حتى في السرقة». القاتل هو طليعة لصوص الفوضى. هم فرادى الآن، لكنهم في مرحلة متوقعة سيخرجون من جحورهم في أرجاء المدينة يبحثون بلاوعي عن «حقهم». يتحرك القاتل العشوائي بخيال مشتّت «سرقة سريعة فاحتفال أسرع»، وبينهما الاستمتاع بالهدوء في حدائق مستوطنة الرفاهية بعيداً عن أعين موظفي شركات الأمن المرهقين.
القاتل في الرحلة التي رواها أمام جهات التحقيق يعرف جيداً موقع السوبرماركت الشهير. طلب من سائق الميكروباس أن ينزل أمامه وترجّل إلى قرية «الندى»، حيث وقعت الجريمة التي كان يمكن أن تمر مروراً عادياً لولا أن إحدى الضحيتين ابنة نجمة مشهورة.
الشهرة أيقظت خيالات أخرى عن حياة المشاهير (اللهو والغنى الفاحش والتطرف في الملذات). تحولت الجريمة إلى حديث الناس، بجانبها خفتت أحداث مثل حصار غزة أو إقرار قانون الجامعات الأهلية أو وضع ضوابط جديدة على استجوابات النواب في مجلس الشعب.
المجتمع مشغول بجريمة الحي الهادئ. الانتقام جذاب والتلصص على عالم كامل الإثارة: فتاتان بمفردهما في بيت وطعنات لها نزعة انتقامية، وخيال تغويه البحث عن فضيحة.
خرجت الحكايات تفتش في السيرة الشخصية والعلاقات العاطفية والبريد الإلكتروني لا لتجد القاتل، ولكن لتدين الضحية؛ من إدمان المخدرات إلى الانحراف الجنسي، وصولاً إلى الانتقام العاطفي. لعب الخيال لعبة غريبة للقبض على الضحية ووضعها في سجن أبدي من شائعات لا تكتفي بقتلها، وإنما تقتلها أكثر من مرة بحكايات من صنع خيال مريض مستوحى من أفلام درجة عاشرة ومن مواقع جنسية تفتقر إلى الذوق ولمعان الأفكار.
اجتاحت وسائل الإعلام قسوة تجاه الضحية. كتبت مقالات تعطي دروساً للأب الغائب عن ابنته المقيمة بمفردها بجوار مقرّ الجامعة. موعظة سابقة التجهيز وخيال كسول اعتمد على النموذج السهل في تصوّر أن القتل كان نتيجة طبيعية لانحراف القتيلتين. كيف عرف أصحاب مدرسة الأخلاق الرشيدة أن القتيلة حوّلت بيتها إلى قاعة حفلات للجنس الجماعي والمخدرات؟ هل ليسهل إثبات أنها تستحق القتل؟ لماذا التشفّي الخفيّ من فتاة تعيش بمفردها وهي شجاعة نادرة في مجتمع مضطرب بين ثقافة محافظة ومدنية حديثة؟
الإعلام حضّر جمهور الجريمة لنهاية من نوع مثير: كشف سياسي (ابن أحد المسؤولين الكبار) أو أخلاقي (انتقام عاطفي من فاتنة متعددة العشاق) أو جنائي (شبكات أبناء الأثرياء والمشاهير لترويج المخدرات).
حجزت الجماهير مقعدها وحبست أنفاسها لتتابع لحظة اكتشاف القاتل. وهنا حدثت الصدمة عندما ظهر على المسرح محمود السيد عبد الحافظ. لم يصدّق أحد أن هذه هي النهاية لجريمة نسج الخيال تفاصيلها بإثارة مفجعة من اليوم الأول: حشيش وخمور ورحم القتيلة متورّم بسبب مادة كيميائية و... كل هذه التفاصيل والقاتل عشوائي. اختار هذا البيت بالصدفة، لم يعرف أصحابه إلا من صور منشورة في الصحف؟
لعن الجمهور القاتل والشرطة ولم يصدق النهاية. الوحيد الذي هربت دموع الفرح من بين عينيه هو والد صاحبة البيت. روى بفخر رواية الأمن لأن القبض على القاتل أظهر براءة ابنته. لحظة قاسية جداً أن تطلب البراءة لمقتولة. دمعة الأب وشعوره بالفرح لأن حكايته عن ابنته ظهر صدقها. موضوع جارح جداً. ماذا لو كنت مكانه وقتلت ابنتك، وكانت كل أمنياتك أن تظهر التحقيقات براءتها وهي القتيلة؟
النميمة لم تعد مجرد تسالٍ عابرة في سهرات المقاهي والصالونات. تحولت إلى حقائق أقوى من الحقيقة نفسها، وعدالة أقوى من العدل نفسه. وغالبية الناس لم تصدق أن عامل البناء هو القاتل لأن الخيال المريض صنع حكايات من الصعب أن تكون هذه نهايتها. القسوة مغرية جداً (انتقام سلبي من أعداء وهميين يعيشون وراء محميات الثروة الجديدة). كما أن الجمهور لا يثق في روايات الشرطة. انتظر اكتشاف تفاصيل مثيرة. لم تشبعه حكاية هجوم لص هاوٍ على فتاتين أثناء النوم من أجل فرصة لم تتم.
لم يدرك أحد بعد أن هذا القاتل نفسه هو إشارة إلى خطر أكبر. جيش من هواة سيصنعون هجوماً عشوائياً يقلق راحة المدينة.
الحزب السري للتوريث: ٧ ملايين صامت سياسي

إنه أكبر حزب في مصر. تقديرات عضويته تتراوح من ٧ ملايين إلى ١١ مليوناً. كتلة ضخمة تتحرك بإشارات السمع والطاعة. هذه هي الطرق الصوفية التي تمثل بمشايخها ومريديها كتلة سياسية صامتة، هي خاتم في إصبع الحكام
الطرق الصوفية هي رايات الدين الخفيفة أو «الدين الشعبي» البعيد عن الدين السياسي. وهذا سحره عند الدولة وجاذبيته عند جماهير لا تخاف من الانتماء إلى كيانات تثير شهوة الأنظمة للانتقام من أي كيان بعيد عن متناولها.
ينضم المصري المسالم إلى الطرق الصوفية وهو مطمئن إلى أنه في ملعب هادئ. فهي منذ العهد السري بين الطرق ونظام جمال عبد الناصر بقيت خالية من السياسة أو اللعب في صراعات السلطة. لكن يبدو اليوم أن الصوفية أصبحت في مرمى لعبة السلطة، وخصوصاً بعد ظهور الملياردير أحمد عز، الرجل الثاني في مجموعة جمال مبارك، في جنازة أحمد كامل ياسين، شيخ مشايخ الطرق الصوفية قبل أسابيع. ملامحه كانت غريبة. أقرب إلى رجل خطير في مهمة صعبة (أو غير متوقعة). ظهور عز كان له ما يبرره، فهو قريب للراحل. لكن ما حدث بعد الظهور لم يكن مجرد صدفة عابرة. تفجر صراع حول رئاسة المجلس الأعلى للطرق الصوفية هذا الأسبوع بشكل لافت. الصراع عنيف وغريب على أجواء الصوفية. ويبدو أن هناك شيئاً أكبر هذه المرة من مهمة إدارة الـ ٧ ملايين صوفي.
ليس هذا فقط، بل إن الصوفيين دخلوا على خط معركة التوريث. وخرج الشيخ علاء أبو العزايم، أحد المتصارعين على منصب شيخ المشايخ، بتصريح غريب جداً. وقال «إذا قام الرئيس مبارك بالتوصية باختيار ابنه جمال ليخلفه في الحكم ورأى أنه يصلح، فإننا كطرق صوفية سنلتزم بالوصية».
هذه هي المرة الأولى، التي يدخل فيها الصوفيون مجال الصراع السياسي. سياسي مخضرم علّق قائلاً «أشعر أن هناك لعباً في الطرق الصوفية». وفسر «غالباً هناك محاولة لأن تكون جماهير الصوفيين جزءاً من الحزب السري لجمال مبارك». زميل له تابع «إذا لم يصل جمال مبارك إلى الرئاسة في حياة أبيه، فهو لن ينالها بعده إلا بمعركة، ربما يفكر بحسمها عبر تظاهرات مليونية من حزب سري».
سيناريو يعتمد أصحابه على ترتيب الأحداث: ظهور رجل جمال مبارك بملامحه المتوترة، ثم تصريحات أبو العزايم، ثم اشتعال الحرب على المنصب.
ترتيب يقول إن هناك محاولة لمصادرة الكتلة الكبيرة للانضمام إلى الحزب السري الذي سيقود جمال مبارك إلى قصر الرئاسة. اللعب مع الصوفيين خطر لأنه يُقحم كتلة لها بعد ديني في معركة التوريث، أي أن تحريكها يفرض جمال مبارك على الناس باسم طائفة دينية دون أخرى.
اللعبة الأخطر هي اتساع مجال حركة الحزب السري لجمال، الذي ربما بات يضمن تصويت ٧ ملايين صوفي يجعلونه ينتصر في أي معركة انتخابية ولو كانت تحت إشراف الأمم المتحدة.
حفلات قتل بـ «الطبنجة الميري»
«الطبنجة الميري» تعني بالعامية المصرية: السلاح الذي يحمله ضباط الشرطة. وتمثل إحدى علامات السلطة وأدوات الأمان الشخصي للضابط. وأخيراً أدّت «الطبنجة الميري» دور البطولة في حوادث قتل في الشارع. آخرها عندما تشاجر شخصان على مكان لركن سيارة كل منهما. كل منهما استدعى شقيقه، شقيق الأول لاعب في منتخب مصر لكرة اليد والآخر ضابط شرطة يحمل سلاحه ضمن كامل هيئته الرسمية. الضابط لم يحتمل المجادلة وقرر فجأة أن يشعر الجميع بوجوده وسلطته، وأخرج «طبنجته» من مرقدها وأطلق رصاصات باتجاه الخصوم وسقط اللاعب صريعاً، بينما أصيب شقيقه. تراجيديا سوداء متعددة الإشارات تثير رعباً إضافياً من جهة غير متوقعة. لكنه نتيجة طبيعية للإفراط في توزيع السلاح الرسمي، الذي يمنح سلطة وجبروتاً، لا بد أن يتدرب حامله على كبح جماحه. وزارة الداخلية لم يزعجها تكرار حوادث القتل على يد ضباط (3 حوادث في أسبوع واحد). ولم تكلف نفسها ببيان يوضح قواعد حمل الطبنجة الميري أولاً ويعد المواطنين بمراجعة هذه القواعد.
هذا أبسط رد فعل على ظاهرة تهزّ الشعور بالأمن الشخصي والعمومي، وخصوصاً بعدما كشفت الحوادث الأخيرة أن الشرطة تفرط في توزيع السلاح على ضباط وأمناء شرطة. إفراط يحوّل الشوارع في مصر إلى ملاعب خطرة، الحكم فيها للأقوى، وبالطبع ليس هناك أقوى من ضابط متعجرف يشعر بجبروته.
يتربى ضابط الشرطة في مصر، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، على السلطة المفرطة، ولا سيما بعد انتصار الشرطة في حربها على المنظمات الأصولية المسلحة في التسعينيات. المحامي ناصر أمين، مدير المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، له رأي لافت، إذ يشير إلى أن «الحوادث الأخيرة تعبّر عن انحسار السلطة المفرطة بعض الشيء بعد الحملات ضد التعذيب وبعد انتشار ظاهرة حقوق المواطن في قسم الشرطة».
انحسرت القدرة على ممارسة السلطة، لكنها تضخمت لدى البعض ولم يعد ممكناً السيطرة عليها. هكذا تنفلت الأعصاب بسهولة وتتحرك الأصابع الهائجة على الزناد.
أعمال القتل التي يمارسها الضباط في الشوارع ليست جرائم عادية يمكن المرور عليها. إنها مواجهة بين أشخاص عاديين وسلطة في غير مكانها. الضابط عندما يحمل السلاح في غير مكان عمله هو مشروع حفلة قتل. والرد على انتشار القتل بالطبنجة الميري هو حالة خوف عمومي. وستسمع في مجالس القاهرة من يقول إنه سينسحب إذا كان الخلاف مع ضابط شرطة في الشارع: «من يضمن هل يحمل طبنجة أم لا؟» ومن يدرك متى تتحوّل المشاجرة العادية حول شيء تافه إلى حفلة قتل؟

0 comments:

Blog Archive